التقوى مفتاح الصبر والرباط وحارس الضمير الذي يقوده للفلاح
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم:
فال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران
يَأْمُرُ
اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الذِي
ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ ، فَلاَ يَدَعُونَهُ
لِشِدَّةٍ وِلاَ لِرَخَاءٍ ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ .
وَالمُرَابَطَةِ هِيَ المَرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ لِلْغَزْوِ وَالجِهَادِ
فِي سَبِيلِ اللهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيهَا " .
( وَقِيلَ
إنَّ المُرَابَطَةَ المَقْصُودَةَ هُنَا هِيَ الانْتِظَارُ فِي
المَسَاجِدِ لأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ حِينَمَا تَحِينُ أَوْقَاتُها ، أيْ
رَابِطُوا فِي المَسَاجِدِ ، وَاتَّقُوا اللهَ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ
فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة والتقوى . .
وسياق
السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكران مفردين ، ويذكران مجتمعين .
. وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم
الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر
والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو
زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك
مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة :
الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ،
وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم
وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ،
واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش
الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر ،
وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر
على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من
الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة
الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط!
والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ،
واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ،
وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله
، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر
على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا
تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة .
إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب
ومرارات!
والذين
آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف
بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن
يزاولوه . .
والمصابرة
. . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء
الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ،
فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى :
أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان
وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع
بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط
بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في
الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في
الطريق!
والمرابطة
. . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد
كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها
أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس .
وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان!
إن هذه
الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم
في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم .
ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير
والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم
ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها
المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال .
وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان
والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن
يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعاً . ولا بد من
الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة
على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة
هذه الدعوة ، وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم
في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبداً من يكره ذلك
المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها
الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل
المعركة بكل تكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا
تنام!!
والتقوى .
. التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛
ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن
هناك .
ولا يدرك
الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج
الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه
الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها
كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق
الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار : { لعلكم
تفلحون } . وصدق الله العظيم .