مقدمة
الحبيب علي الجفري يكتب: تمييز خواطر الخير
٢٦/٩/٢٠٠٨
سبق القول إن مصدر خواطر الخير إما أن يكون من الله تعالي إلهاماً، أو من الملَك كما قرأتم في الحديث عن «لمة الملَك»، «إنَّ للشَّيطانِ لَمَّة بابْنِ آدَمَ، ولِلْمَلَكِ لَمَّة، فأَمَّا لَمَّةُ الشيطانِ، فإيعادٌ بالشَّرِّ وتكذيبٌ بالحق، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ، فإيعادٌ بالخَير، وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك، فلْيعْلَم أنَّه من الله، فيحْمَدُ الله، ومَن وجد الأخري، فَلْيتَعَوَّذْ بالله من الشيطان الرجيم» (سنن الترمذي ٥/٢١٩ برقم ٢٩٨٨) فكيف نميز خاطر الخير أهو من الله أم من الملَك؟
قائمة المحتويات
o أولاً: انظر هل هذا الخاطر من أعمال القلوب أم من أعمال الجوارح؟
o ثانياً: انظر هل هذا الخاطر يأتيك ناصحاً ثم ينصرف، أم أنه يصر ويلح عليك في العمل؟
o ثالثاً: هل جاء هذا الخاطر ابتداء، أم جاء بعد فعل الخير؟
o لماذا نميز بين مصادر خواطر الخير؟
o شهود المنة في خواطر الخير تدفع العجب
o خاطر خير في باطنه شر
أعلى الصفحة
أولاً: انظر هل هذا الخاطر من أعمال القلوب أم من أعمال الجوارح؟
إذ إن الأعمال المقربة إلي الله إما أن تكون أعمالاً ظاهرة تقوم بها الأعضاء كالصلاة والصدقة وصلة الرحم، وإما أن تكون من أعمال القلوب الباطنة كحضور القلب في الصلاة أو الإخلاص في الصدقة وعدم الرياء والمنة، فإن كان الخاطر من أعمال القلوب فهو من الله عز وجل، لأن الأمور الباطنة تلك لا تطلع عليها الملائكة ابتداء في نفس الإنسان.
أعلى الصفحة
ثانياً: انظر هل هذا الخاطر يأتيك ناصحاً ثم ينصرف، أم أنه يصر ويلح عليك في العمل؟
قالوا: إن كان يأتيك ناصحاً فإن قبلته فبها وإلا انصرف فهو من الملائكة، لأن وصف خاطر الخير من الملك أنها «لمة»، فهو ينصحك فإذا ما قبلت نصحه انصرف عنك، أما استيقظت مرة في ساعة من الليل وخطر في قلبك أن تتوضأ وتصلي ركعتين تهجدا، ثم جاءك خاطر آخر أن تغفو قليلاً فلم تستيقظ إلا مع أذان الفجر؟ إن الذي جاءك هذا ناصح لم تلتفت إليه أنت فانصرف، فلمة الملَك تأتي ناصحة علي سبيل التعريض وتنصرف ولا تستقر في نفس الإنسان، لكن الذي يأتيك من الله يأتيك بقوة تشعر معها كأن الخاطر يحملك علي أن تقوم وتفعل.
أعلى الصفحة
ثالثاً: هل جاء هذا الخاطر ابتداء، أم جاء بعد فعل الخير؟
قالوا: إن من علامات قبول أعمال الخير أن يقذف الله في قلبك عمل خير آخر، فكل عمل مقبول من علامة قبوله أن يهيئ الله تعالي وييسر نفس الإنسان لعمل خير آخر، بعبارة أخري: إن جاءك هذا الخاطر من الخير بعد عمل صالح فهو من الله مثوبة.
أعلى الصفحة
لماذا نميز بين مصادر خواطر الخير؟
قالوا: إن معرفتك لمصدر خاطر الخير يعظم شهود المنة في قلبك لله، فعندما تعلم أن الله قد ساق إليك ملكاً محبوباً خصيصاً لينصحك بخاطر خير، تستشعر عظمة هذه المعاملة الراقية . قد يقول لك البعض: وهل الملائكة تكلمنا؟ إن الملائكة لا تكلم إلا الأنبياء، وهذا غير صحيح، لأن الوحي الذي لا ينزل إلا علي الأنبياء هو الوحي بالتشريع، لكنا نتكلم عن «لمة الملَك» أي مخاطبة الملائكة للمؤمن الصالح بالنصح وليس بالتشريع.
بل أزيدك حديثاً بأن المؤمن إذا صفا قلبه أكثر فأكثر يمكنه أن يسمع خطاب الملائكة، ففي الحديث الصحيح أن عمران بن الحصين تسلم عليه الملائكة (مسلم ٤/٤٧ برقم ٣٠٣٣)، وقد كان قد ابتلي ببلاء فكانت ثمرة صبره ورضاه وحسن معاملته لربه فيما ابتلاه فيه أن الملائكة كانت تلقي عليه السلام وكان يسمع تسليم الملائكة.
هل يزيدك تسليم الملائكة أو ينقص من قربك إلي الله؟ الحقيقة أن الضار والنافع هو الله لا ملائكة ولا إنس ولا جن، لكن المعني هنا هو ملاطفة الله لك وإكرامه للصادقين في إقبالهم عليه فيزيد القلوب استشعاراً لفضل الله.
وأما الذي تشعر أن الله قذفه في قلبك مباشرة بالإلهام فهو علامة اعتناء من الله تعالي بك، يأتي سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وأرضاه - فيلهمه الله ويقول: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي، فَنَزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي»، وَآيةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِي - صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَيرَةِ عَلَيهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَي رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيرًا مِنْكُنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيةُ" (البخاري ١/١٥٧ برقم ٣٩٣).
ويقف سيدنا عمر بن الخطاب علي المنبر في خلافته الراشدة، ليخرج عن سياق الخطبة ويقول: يا سارية الجبل الجبل، «فالتفت الناس بعضهم إلي بعض، وفهم الإمام علي بن أبي طالب المسألة فقال ليخرجن مما قال فلما فرغ سألوه، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجه واحد، وإن جاوزوا هلكوا، فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه.
فجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم «فعدلنا إلي الجبل ففتح الله علينا»، وقد كان جيش سارية علي بعد آلاف الأميال من المدينة المنورة. (الإصابة في تمييز الصحابة ج٣/٦)
هذا إكرام من الله ساقه إلي قلب سيدنا عمر، فما الذي أشعر عمر في تلك اللحظة أن سارية يحتاج إلي هذا التنبيه؟ فإذا استشعرت في قلبك من يقول لك قم فصل ركعتين أو قم فتصدق، فإن الله يلهمك أن تتحرك نحو الخير، فبادر وسارع واستجب مستشعراً فضل الله عليك بالتنبيه والإلهام.
أعلى الصفحة
شهود المنة في خواطر الخير تدفع العجب
هناك فائدة أخري لهذه المسألة، فعندما تستشعر وتحس بأن هذا الخاطر جاءك إلهاماً من الله، تخلصت من مرض العجب، وهو من أخطر أمراض القلوب وآفاتها - كما نعلم في مقالات قادمة إن شاء الله - فكلما استشعرت بأن كل عمل من الأعمال الصالحة التي أديتها كانت بدايته خاطرا من الله عز وجل أو من ملَك قد ساقه إليك ؛ فهل يمكن أن تعجب من نفسك؟
يقال إن إبراهيم بن أدهم زار أحد معارفه وأراد الصلاة، فقال صاحب الدار: انتظر حتي آتيك بسجادة، ثم نادي علي زوجته يا فلانة هاتي السجادة التي جئنا بها من الحج ليس لهذا العام ولا الذي قبله، فقال إبراهيم: إنا لله وإنا إليه راجعون... أبطلت ثواب ثلاث حجج في ساعة ؟
لا بأس أن تفرح بالطاعة وأن تحدث بنعمة الله عليك بها، بل ينبغي ذلك، لكن لا تدخل ظلمة المنة علي الله تعالي، ومعيار المنة تلحظه أكثر في حالة المصيبة، فإن غلبت علي قلبك الغفلة عن استشعار أن أعمالك الصالحة كانت بخاطر من الله، تبدأ آثار الانهيار فتقول: رب ماذا فعلت؟ لماذا حدثت المصيبة؟ إن الذين عصوك يفعلون كذا وكذا وأنا الطائع المستقيم. من أين دخل الشيطان عليك هنا بهذا العجب؟ كان البداية عندما فعلت الخير غفلت عن أن هذا الخير كانت بخاطر من الله ساقه إليك.
ولهذا كان السلف الصالح إذا عمل أحدهم عملاً صالحاً شكر الله تعالي أن وفقه إليه، ثم احتاج إلي أن يشكر الله الذي وفقه إلي شكر العمل الصالح وهكذا، فهذه المعاني كلها قوام سيرك إلي الله تعالي، وقد سمعت الشيخ محمد الشقير يقول: (كل الأعمال الصالحة أصفار ورقمها الإخلاص لله عز وجل)، فالإخلاص معني تعيشه في سيرك، والمعاني هي التي تجعل للأفعال والأعمال ثمراتها عند الله سبحانه وتعالي.
أعلى الصفحة
خاطر خير في باطنه شر
قد تكون البداية خاطر خير، إلا أنه يفضي إلي شر أو يفوت خيراً أولي منه، وتجد أن المبادرة إليه اتخذت شكل العجلة دون تأنٍ، فقد أمرنا بالمسارعة في الخير، لكن هناك فرقا بين المسارعة والعجلة، فالمسارعة أن تخرج من نفسك قرار العمل وتبدي لله همة الأداء، لكن العجلة فيها عدم النظر في كيفية أداء العمل علي طريقة يحبها الله، فيغلب علي العمل - الذي كانت بدايته خاطر خير- عجلة دون تأن، وأمن دون خوف ونشاط في غير خشية وعمي عن العاقبة